بقلم الشيخ د. عامر بهجت حفظه الله
(عضو هيئة التدريس في جامعة طيبة بالمدينة النبوية)
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله وصلى الله وسلم على رسول الله.
أما بعد:
فقد حُبّب إليَّ زيارة المدارس الشرعية، والاطلاع على طرائق تعليم العلوم الشرعية، فيسر الله لي دراسة واقع تعليم الفقه في الجامعات السعودية ثم كنتُ إذا لقيتُ ملتحقًا بجهة تعليمية للعلوم الشرعية أسأله عن المنهج الدراسي وطرائق التعليم السائدة عندهم.
وفي عام 1438هـ يسر الله لي زيارة الهند وزرتُ عددًا من المدارس والجامعات الإسلامية، كان منها: دار العلوم ديوبند، ومظاهر العلوم سهانفور، وندوة العلماء، وفلاح الدارين تركيسر، وإشاعة العلوم بأكل كوا، وغيرها والتقيتُ عددا من علماء شبه القارة الهندية وخريجي مدارسها المباركة، ثم زرتها مرة أخرى عام 1439ه، ثم ثالثة 1440ه.
زيادة على لقاء علمائها الأفاضل الذي يسره الله بسبب سكنى المدينة المنورة، ولقاء خريجي مدارسها من طلاب الجامعة الإسلامية بالمدينة.
وفي عام 1440ه يسر لي زيارة موريتانيا (شنقيط) والاطلاع على طريقة الدراسة في مدارسهم التي تسمى (المحاظر) فزرتُ محظرة أم القرى، ومحظرة النباغية، ومحظرة التيسير، ومحظرة عين الخشبة وغيرها، إضافةً إلى لقاء جماعة من العلماء فيها.
فكان ذهني بغير اختيار يعقد مقارنة بين حال التعليم في الهند وحاله في موريتانيا بهدف الوصول إلى صورة تستفيد من كل مدرسة أحسن ما عندها.
وقبل الدخول في هذا أشير إلى أن عدد سكان موريتانيا كلها أقل من أربعة ملايين ونصف حسب آخر إحصائية، وأظن أن عدد طلاب المدارس الإسلامية وخريجيها في الهند أكثر من هذا العدد.
لكن هجم على ذهني سؤال عن نسبة العلماء والمتقنين هنا وهناك!! وسأتركه بلا جوابٍ؛ لأذكر أني لقيتُ شابا تخرج من الهند برتبة (المفتي)؛ فسألتُه: ماذا درستَ في الفقه؟ فقال: (نور الإيضاح، والقدوري، وشرح الوقاية، والهداية) وربما قال أيضًا: (كنز الدقائق).
فذاكرتُهُ في بعض مشهورات مسائل المذهب الحنفي؛ فإذا به خالي الوفاض بل وصل الحال أنه بعد سنةٍ طلب مني -وأنا حنبلي المذهب ولم أدرس في المذهب الحنفي إلا القدوري وقسم العبادات من الوقاية- أن أدرّسَه الفقه الحنفي!
بينما لقيتُ غلامًا في أحد محاظر موريتانيا فطلبتُ منه بغتةً أن يشرح لي مواضع من الآجرومية -وهو كتاب النحو المشهور في بلاد العرب- ولم يدرس في النحو غيرها؛ فشرع في شرحه بدون كتابٍ يحفظ ألفاظ المتن، ويحل عبارته ويمثل لها، ثم اختبرتُه في مواضع أخرى؛ فإذا هو متقن مؤهلٌ لتدريس الكتاب بدون مطالعة ولا وجود الكتاب بين يديه.
فسألتُ نفسي عن الفرق بين الحالتين، فوجدتُ الجواب ظاهرًا للعيان: إنه الحفظ والضبط والتكرار والتركيز.
وسأبدأ بالنقطة الأولى: وهي الحفظ
فأقول: لا يختلف علماء الشرع في ضرورة الحفظ للتحصيل العلمي، بل قد جاء ذلك في الكتاب والسنة، قال تعالى عن القرآن: (بل هو آياتٌ بيناتٌ في صدور الذين أوتوا العلم) [العنكبوت: 49] وفي السنة حديث: "احفظوه وأخبروه من وراءكم” .
وكلام العلماء في هذا لا يحصر.
فمنه ما قال الإمام ابن الجوزي -رحمه الله-:
(ولقد تأملتُ على المتفقهة أنهم يعيدون الدرس مرتين أو ثلاثا فإذا مر على أحدهم يومان نسي ذلك، وإذا افتقر إلى شيء من تلك المسألة في المناظرة لم يقدر على ذلك فذهب الزمان الأول ضائعًا)
وقال ابن الجوزي: (فليس العلم إلا ما حصل بالحفظ)
وقد ذكر الحكمي في نظمه عدة الطلب :
والحفظ أولى ما مضى من أسسِ [*] فادأبْ عليه في الضحى والغلسِ
والحفظ أولاها بالاهتمامِ ** وهو طريق السلف الأعلامِ
لاتصغ يا أُخَيَّ للإرجافِ ** ولتتّبعْ مناهج الأسلافِ
واسمعْ لما أسنده الخطيبُ في * جامعه عن الإمام الصيرفي
(ليس بعلمٍ ما حوى القمطْرُ * ما العلمُ إلا ما حواه الصدرُ)
وقال عنه ابن أبي الحديد في ** أول نظمه الفصيح فاعرفِ:
(وبعد فالعلم إذا لم ينضبطْ** بالحفظِ لم ينفعْ ومن مارى غلِطْ)
وجلنا يحفظ قول الرحبي ** في نظمه المحرر المستعذبِ
إذ قال وهو حافظٌ همامُ ** (فاحفظ فكل حافظٍ إمامُ)
ولو ذهبتُ أقرر اتفاق أهل العلم على أهمية الحفظ وضرورته لطالب العلم لطال هذا المقال، ولكن حسبنا من القلادة ما أحاط بالعنق، ولعلي أفرد مقالًا لاحقًا عن الحفظ إن شاء الله.
وعودًا إلى المقارنة التي أشرتُ لها في أول المقال فإن الطالب في المحاظر الموريتانية لا يمكن أن يدرس شيئًا دون أن يحفظه؛ لا سيما المتون الأساسية. فيتخرج مستحضرًا لجُلّ ما درسه أو كله.
أما المدارس الإسلامية في شبه القارة الهندية فلا يكاد يوجد فيها مقرر يُحفظُ إلا القرآن.
حتى إنني سمعتُ أحد علماء الهند -رحمه الله- يقول متعجبًا: إن عند العرب شيئا يسمى المتون العلمية يحفظونه!!!
وهذا السبب سبب رئيسي -بلا شك- جعل المدارس الإسلامية في شبه القارة الهندية؛ يتخرج منها في كل سنة عشرات الآلاف لكنهم ما يلبثون -إن تخرجوا وعندهم علم- أن تتناقض علومهم بعد سنين يسيرة من التخرج إن لم تتبخر قبل ذلك.
النقطة الثانية: الإكثار أم التكرار.
يتداول الشناقطة أبياتًا جعلوها من قواعد التحصيل العلمي وهي قول الناظم:
وإن تردْ تحصيل فنٍّ تممه * وعن سواه قبل الانتهاء مه
وفي ترادف العلوم المنعُ جا * إن توأمان اجتمعا لن يخرجا
والطالب في المحظرة يأخذ متنا من المتون في أحد العلوم فيقبل عليه ليله ونهاره حفظًا وتفهمًا وشرحًا وتكرارًا.
أما المدارس الإسلامية في الهند، فيمكن أن يجمع الطالب عشرة علوم في وقت واحدٍ.
وقد قال الزهري: لا تأخذ العلم جملةً، فإن من رام العلم جملةً ذهب عنه جملةً، ولكن الشيء بعد الشيء مع الأيام والليالي.
وفي رواية معمر عن الزهري: (من طلب العلم جملة فاته جملة، وإنما يدرك العلم حديث وحديثان).
ومما قيل في هذا: (ازدحام العلم في الذهن مضلةٌ للفهم) .
وكما ذكرت في أول المقال، فكم في شبه القارة الهندية ممن درس: نور الإيضاح والقدوري وشرح الوقاية وكنز الدقائق والهداية؟!
الجواب: عشرات أو مئات الألوف.
لكن السؤال الثاني مؤلم: كم شخصًا في القارة الهندية يستحضر واحدًا من هذه الكتب استحضارًا تامًا ويحفظ مسائله أو ألفاظه؟
ولك أن تسأل: وكيف يمكن أن يحفظ في خضم هذا الجدول المزدحم؟
النقطة الثالثة: التدريس بغير العربية.
لا يخفى على أحدٍ أن القرآن عربيٌّ، والسنة عربية وجل المصنفات المعتمدة عند أهل العلم -حتى الأعاجم منهم- في سائر العلوم الشرعية بالعربية. حتى قال الشاطبي -رحمه الله-:
(فإذا فرضنا مبتدئًا في فهم العربية فهو مبتدئ في فهم الشريعة…فإذا انتهى إلى درجة الغاية في العربية كان كذلك في الشريعة) .
إذا تقرر ذلك فإنه لا ضير في تبليغ ما يحتاجه الناس في علوم الشرع بلغاتهم -بل هو واجب- لكن تبليغ الشريعة للعامة شيءٌ وبناء العلماء وتأسيسهم شيءٌ آخر.
فما ساغ في الأول ووجب هو في الثاني ممنوعٌ، إذ العربية تحتاج إلى تمرس وملكةٍ لا تحصل إلا بطول الدربة والممارسة.
وإن من الجناية على طالب العلم أن يتحول درس النحو في كبار كتب العربية إلى ترجمة للكتاب من العربية إلى الأردية.
وقد لقيتُ بعض خريجي بعض المدارس العريقة بل لقيت بعض العلماء المفتين لا يستطيع أن يتحدث معي بالعربية!
فكيف يتوقع من هذا أن يكون محققا نابغا في علوم الشرع!
إن حصل فهو نادر والنادر لا تبني عليه الأحكام.
عودًا على بدء أقول:
لقد حفظ الله عز وجل الدين في شبه القارة الهندية وجعل من أعظم أسباب حفظه: هذه المدارس الإسلامية المباركة، وثمار هذه المدارس وأثرها المبارك على شبه القارة الهندية بل على العلم الشرعي في العالم أمرٌ يبصره كل ذي عينٍ.
وكان من مميزاتها التي تميزت بها إقراء أصول السنة الستةـ وتوفير بيئات علمية إسلامية يتربى فيها طلبة العلم، وكل هذا يدعو إلى الحفاظ عليها وتطويرها ليس بناءً على الأذواق والآراء الفردية، بل على المسلّمات والقواعد التي قررها السلفُ والأئمةُ.
ومن هذه القواعد المتفق عليها عند أهل العلم المتقدمين:
1-ضرورة الحفظ
2-ضرورة التكرار وعدم ازدحام العلوم
3-ضرورة التعليم بالعربية في مراحل التعليم الشرعي.
إذا تقرر هذا فإني أتوجه بهذا الاقتراح للسادة العلماء في شبه القارة الهندية وألخصه فيما يأتي:
1-تقليل مقدار المقررات التي تُدرس، وتعويض الساعات بكثرة التكرار.
فمثلًا في الفقه بدلًا من دراسة خمسة كتب: (نور الإيضاح، والقدوري، وكنز الدقائق، وشرح الوقاية، والهداية) -الاقتصار فقط على القدوري مع اشتراط حفظه أو شرح الوقاية مع اشتراط حفظ المتن. وعلى هذا فقسْ!
2- اشتراط حفظ المتن، فلا يتخرج الطالب حتى يحفظ المتن ويشترط في الحفظ حدًا من التكرار فلا يتخرج إلا وقد سمّع المتن مثلًا خمسين مرةً.
3-اشتراط إلقاء جميع الدروس بالعربية بعد تأهيل الطلبة في مراحل سابقة للتمكن في العربية. ولذا لابد من تعليم العربية قبل البدء في الدراسة التفصيلية للعلوم الشرعية ثم أما بعد: فبدلاً من أن يتخرج من المدارس طلاب درسوا عشرات الكتب بلا إتقان ليتخرج الطلاب وقد درسوا كتبًا محدودةً مع تمام الضبط والإتقان. وأدعو مشايخنا في شبه القارة الهندية إلى زيارة شنقيط والإفادة من التجربة الشنقيطية بما يناسب واقعهم.
هذا ما تيسر في هذه العجالة، والموضوع يحتمل أكثر من ذلك ولكني آثرت الاختصار، وصلى الله وسلم على سيدنا ونبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين