بسم الله الرحمن الرحيم
«كان من نعمة الله تعالى على هذا العبد الضعيف راقم هذه السطور أن زار بلاد الهند وفي طليعتها بلدة ديوبند وجامعتها قلب الهند النابض بالعلم والتقوى والزاخر الفياض بالعلماء المؤلفين، و الموّاج بطلاب المعرفة والدين، وكانت هذه الزيارة عندي من أماني العمر، و أحلام الليالي والنهار، فيسّر الله ذلك على أطيب حال، وله المنّة، ولما زرتها وجدتها على القرب أطيب منها على البعد؛ تفيض أنوار العلم من جنباتها وتقرأ أحاديث الرسول- ﷺ- في عرصاتها، وتبين أحكام الدين للمسترشدين مع النظام التام والخطة الرشيدة والغاية المثلى، مصحوبًا كل ذلك بروح أولي الروح وعبقات أصحاب الفتوح، وكان من تمام السعادة والفضل أن شهدت بعضًا من مجلس الحديث الشريف لمولانا الأجل بركة الأمة ذي الأنفاس الطاهرة سيدي شيخ الحديث محمد فخر الدين المرادآبادي، وقد تفضل مراعاةً لوجود العاجز الضعيف إجابةً لرغبة الإخوة المحبين الكملة فقرر بالعربية حديث بني سلمة الذين رغبوا أن يتركوا ديارهم ويتحولوا إلى جوار مسجد الرسول-ﷺ-فقال لهم رسول الله ﷺ: «دياركم تكتب آثاركم». فكان تقريره الدرر الغوالي والكوكب المتلالئ، وفيض الباري وعمدة القارئ، مضافًا إلى إرشاده الساري في الطلبة المستمعين سرَيَان الطيب في الهواء والحياة في الماء، فجزاه الله عن السنة المطهرة وأهلها خيرًا، وأدام هذا المعهد بأركانه ودعائمه الأئمة الأجلّة بدور الهدى، ومصابيح الدجى أمثال سماحة الشيخ صدر المدرسين مولانا العلامة إبراهيم البلياوي (1304-1381هـ/1886-1967م) وإخوانه وفي مقدمتهم مولانا القارئ محمد طيب -حفظهم الله تعالى- (1315-1403هـ/1897-1983م)، وبارك في أنفاسهم الصالحة وأوقاتهم الرابحة، وكان من زيادة الإكرام أن أحلونا ضيوفًا عليهم في دار الضيافة واسترشدنا بهديهم في العلم فللّٰه الحمد والمنّة بدءًا وختامًا. والذي ندين الله به أن هذا المعهد بعلمائه وطلابه اليوم هورئة الإسلام الصادقة الناطقة وشجرة الدين الوراقة وموئل العلم والتقوى، فنسأل الله له الدوام والازدهار ولأساتذته الأعلام النفع بطول الأعمار. والله يجيب ولايخيب رجاء الراجين فضلا منه وكرمًا.
وفاتني أن أذكر هنا وأنا بين الأيادي التي قام بها علماء هذا المعهد الكبير الجليل العامر بأساطين العلم والدين والتقوى أن لنا طَلِبَةً وإن تطاولتُ قلتُ: إن لنا عليهم حقًا، وذلك الحق هو أن يقوموا لنا بترجمة نتائج عقولهم الفريدة وفيوضاتهم البارعة؛ فإن كل عالم يقرأ شيئا لجهابدة العلم في الهند يجد فيه علمًا جديدًا وغنيًا بالفائدة والفتوحات العلمية التي عمادها التقوى والصلاح والانهماك في العلم مع الانقطاع عن كل ما سواه، فلذلك لاتخلو مؤلفات الشيوخ الأماجد علماء الهند من جديد ومفيد، وذلك فضل الله يؤتيه من يشاء، وفي كثير منها ما لم يوجد في كتب أكابر العلماء المتقدمين مفسرين أو محدثين أو حكماء، ولكن نقول – والأسف يحزّ في النفس ويأخـذ بالتـلابيب-: إن جمهرة تلك المؤلفات النادرة أوكلها قد ألفت باللغة الأردية وهي لغة بلاد الهند، وليست هي لغة علوم الإسلام المنتشرة، فتلك هي اللغة العربية، هذه العلوم والكشوفات التي فاز بها إخواننا علماء الهند إذا بقيت في قوالبها الأردوية بقيت محجورةً عن أعيننا نحن معشر الناطقين بالعربية، وفي هذا غبن كبير لنا وللعلم والدين؛ لأن تلك الكتب ألفت لخدمة الدين والإسلام فلا يجوز قصرها على مجموعة من الناس ومنعها عن مجموعة من الناس؛ بل إن من أوجب الواجبات العلمية وأداء حق المعرفة أن تترجم تلك الكتب النفيسة إلى العربية لتستنير بها عيونٌ وقلوبٌ ظمأى إليها جدًّا، وهذا الحق الثقيل لاينهض به -فيما أخال- إلا هذا المعهد العامر الزاخر بالعلماء والطلبة النجباء، وأنا إذ أسجل شكري لهم جميعا لما لقيت في ظلّهم الوارف من الحفاوة و المحبة الفياضة أسجل عليهم راجيًا متطاولًا: المطالبة بالنهوض بهذا الحق أداءً لخدمة الدين؛ إذ ليست علومهم ملكًا للهند فقط؛ بل هي ملك للإسلام والمسلمين على اختلاف أقطارهم؛ بل هي ملك للناس و البشرية جميعا، فحقها أن تيسر للناس جميعا، وقد استبشرت خيرًا بما ترامى إليّ أن إدارة المعهد بمجلس الشورى فيه آخذة بالقيام بهذا العبء العظيم والحق العظيم المتوجب على علماء الهند وطلابهم خاصة، فلهم خالص شكري معجَّلا، و أرجو من الله – عزّوجلّ- أن يعينهم على أداء هذا الحق وإيصاله إلى مستحقين من أفراد العالم، وليس ذلك على الله بعزيز، ولاعلى هممهم ببعيد. وكتبه شاكر الأيادي و ضيف هذا النادي العبد الضعيف عبد الفتاح بن محمد أبوغدّة خادم طلبة العلم بمدينة حلب من بلاد الشام، و تلميذ العلامة الكوثري- رحمه الله تعالى ورضي عنه- ضحى الخميس 28/من ربيع الأول 1382هـ.
مجلة الداعي، جمادى الآخرة 1438هـ = مارس 2017م، العدد: 6، السنة:41